المغلوب ...
إبراهيم ابو حويله ...
"المغلوب مولع أبدا بتقليد الغالب في شعاره وزيه و نحلته وسائر أحواله وعوائده ، والسبب أن النفس تعتقد الكمال فيمن غلبها " ابن خلدون
في تفكيك الحالة الفسية التي نعيشها والوصول إلى تلك المرحلة التي نحرر فيها أنفسنا .
وصولا إلى حالة التحرر من التبعية والإنطلاق في طريقنا الخاص ، لعودة الدين والحضارة والمدنية والأخلاق إلى الأمة العربية المسلمة ، لا بد من أن نفهم دور تقليد الغالب للأسف .
وهو صفة لصيقة بالمغلوب ، ولكي يتحرر المغلوب من تبعيته لا بد ان يفهم سبب إنتصار عدوه ، فليس كل ما عند العدو هو سبب في إنتصاره ، وحتى ندرك ما يجب القيام به ، وما لا يجب القيام به .
تلك القصة التي أثارت صاحبنا المسيري ، كان لديه طالبتان من بلد تم إحتلاله من قبل دولة أيطالية ، وعندما سأل الفتاة عن فتى أحلامها وزوج المستقبل ، قالت ببراءة شاب ايطالي .. إلى هنا القصة عادية ، ولكن ما هو ليس عاديا صاحبنا هذا .
أثارت هذه القصة شجونه ، وبدأ رحلة بحث محمومة في كل شي نقوم به ، وما هي تلك التفاصيل والمظاهر والحيثيات التي نتبع بها الإنجليز والفرنسيين والايطاليين نحن العرب ولاحقا طبعا الأمريكان الغالب الأكبر .
ووجد أننا نسير ورائهم في كثير من تفاصيل ومفاصل الحياة ، في الفن وفي المسرح وفي الشعر وفي التمثيل في البنايات والأثاث وتوزيع الغرف والشوارع والتنظيم ، في المدراس في الحياة العامة والخاصة والأخلاق ، في كل شيء تقريبا .
نحن أخذنا المدرسة والجامعة والتخصصات وسوق العمل والحكومة والبرلمان والشيوخ واللباس والمسكن والسيارة والمصنع وحتى البرغر والبيبسي .
ماذا لو كان هناك شيء أفضل مثلا عند اليابانيين أو الصينين أو أمريكا اللاتينية أو حتى عند العثمانيين ، الذين تنكروا لتاريخهم الذي كان له دور وحضارة وساهم في بناء أمم وعلوم وثقافة وفنون وكان له أثر كبير في العالم كله ، ويحتاج إلى جهود كبيرة لتبيض صفحته واخراجه إلى النور .
أو عند أسلافنا مثلا نحن العرب المسلمين ، الذين لا نأخذ من تاريخنا إلا القليل ولا يخضع هذا التاريخ للدرس والتمحيص ونتسلى بقال فلان وفلان ، و نذكر تلك الأخطاء التي ارتكبها الامويين والعباسيون ، فهذا التاريخ ساهم في ايصال الاسلام إلى العالم أليس كذلك .
وتركناه وتبعنا الغرب ، ماذا لو كان هذا التاريخ فيه المخرج من هذه الحالة التي نعيشها اليوم ، وحقيقة نعم فيه المخرج ، فهذه الأمة إستطاعت الإستمرار والمحافظة علي قيمها واخلاقها مع كل حملات التغريب التي تعرضت لها .
ولكن هناك تلك الجزئية الناقصة ، تلك الفاعلية التي نبحث عنها ، تلك الروح التي فقدناها ، ونحاول استعادتها ..
رحلة الثقافة هذه فتحت ذهن صاحبنا للمسرح الياباني والصيني واطلع على غيره من الثقافات والفنون التقليدية ، فبحث في الثقافة اليابانية مدة عام كامل ، فمثلا نحن اليوم لا نهتم بالخط إلا ما ندر ، لكن الشعوب شرق آسيا تهتم بالخط .
هل غرقنا في التبعية ونسينا التقييم والتحليل والقياس ، ونحن نملك نبعا صافيا نستطيع العودة إليه لنعرض عليه ما نقبله مما فيه فائدة لنا ، وما لا نقبله مما لا فائدة فيه .
ولكن الغرب كان من الدهاء والخبث بحيث انه سعى وما زال يسعى لفرض ثقافته واخلاقه ونتائج فكره علينا .
مع أن مدارسنا تختلف وثقافتنا مختلفة وخريطة ادركنا مختلفة ، ولكنه سعى عبر المنظمات الثقافية والعالمية والدولية التي أنشأها لتكون حضارته وثقافته وطريقته هي الغالبة .
بل ربط المساعدات والمنح والتعليم والهجرة بهذه المنظومة وإتباعها ، بل ربط دعم الأنظمة الحاكمة واستقرارها باتباع هذه المنظومة ، والا تعرضت للمؤامرات والفتن والانقلابات عبر سفاراته التي تنتشر في العالم ، وتسعى لخلق حالة من عدم الاستقرار ، وخلق الاتباع ووضعهم في اماكن التأثير ، لاستخدامهم في اللحظة التي تخرج فيها هذه الدول عن التبعية.
لقد وقعنا بين فكي الكماشة ، حرص المغلوب على إتباع الغالب من جهة ، وحرص الغالب على فرض ثقافته واخلاقه من جهة أخرى .
للأسف الخروج من بين فكي هذه الكماشة لن يكون سهلا ، وطبعا تحرص مجموعة من الأطراف على الأوضاع القائمة حتى وان كان فيه زوالها بعد ذلك ، لعدم ادركها لخطورة المشروع الغربي عليها وعلى الأمة كما حدث مع شاه أيران وغيره من جهة ، ومن جهة أخرى للقوة المفرطة التي تنتهجا القوى الغربية في بقاء هذا النموذج وبقاء التبعية لها .
وهناك أمر أخر لا يقل أهمية ، هو تلك الطريقة التي تعرض بها القوى الغربية نموذجها ، بحيث تخفي الجانب الإستعماري والإستغلالي والقمعي والدموي لها .
وتعرض الجانب الثقافي والفكري والإنساني في نموذجها ، وتحرص على استخدام الكلمات والمعاني والأفكار التي لا تعرض حقيقة ما تقوم به ، حتى وهي تمارس أبشع انواع القتل والدموية المفرطة والتصفية والفصل العنصري والفوقية الإستعمارية .
لذلك وقع ضحية لهذا الإستغفال مجموعة كبيرة من المفكرين والقوميين وحتى من علماء الدين ، وقعوا ضحية لهذا النموذج ، وقد احسن الغرب استغلالهم بما يحقق أهدافه .
ولذلك لا بد من تفعيل كافة الجهود لخلق حالة من الوعي أو استرداد الوعي في الحقيقة ، ولا بد من التركيز على تلك الجوانب العقدية والفكرية والأخلاقية التي تحرر الإنسان من تبعيته للغالب أولا .
وتخلق حالة من الوعي ثانيا ، يستطيع من خلالها المغلوب تحديد ما يصلح له ويصلح به حاله ، وما هو ليس كذلك انما هو في الحقيقة طريق لبقاء هيمنة الغالب عليه .
محاولة من أجل الفهم .